المجاهدة غنية بلقايد حصريا لـ”مجلة أحلامي”

“الثورة دخلت بيوتنا وألبستنا الروح الوطنية دون استئذان”

المجاهدة غنية بلقايد هي المجاهدة الوحيدة التي حكم عليها بالمؤبد في محاكمة1958 إبان ثورة التحرير، هي المرأة الجزائرية الفريدة من نوعها، المثقفة والمشرفة الناصعة البياض، الجميلة والأنيقة الخلوقة هي من بين عشرات الصبايا اللواتي شرفن تاريخ الجزائر إبان الثورة، كافحت وناضلت بأشكال متعددة لتقف إلى جانب قضايا أهلها وأبناء شعبها، هي من بين من تعرضن للاعتقال والتعذيب، استقبلتنا في بيتها الجميل الواسع المضيء، وما لاحظناه أنه لا يحتوي في تصميمه على أي رواق ولما سألناها عن سبب ذلك؟ قالت أنها لاتريد أن ترى أروقة في منزلها لكي لا تتذكر بشاعة السجن الذي قضت فيه أيام شبابها، بيتها مرآة تعكس جمالها وسعة قلبها، باهتمام بالغ وكأنها ترى فينا أمل الجزائر استقبلتنا و ما تزال تشعل ثورةً دافئة في صدرها، تستصغر عطاءها ونضالها رغم أنها سجلت اسمها في التاريخ الذي سيبقى راسخا في الأذهان بأحرف من ذهب، اختارت أن تدلي بشهادتها لأول مرة  باللغة العربية عبر “مجلة أحلامي”.

حاورتها: أحلام بن علال

بداية سيدتي الكريمة أعطيني نبذة تعريفية عنك؟ من هي غنية بلقايد؟

أولا أهلا وسهلا ومرحبا بكم، أما بعد، أنا غنية بلقايد مجاهدة محكوم عليا بالإعدام، لماذا ؟ لأنه في وقت الثورة _توقفت لبرهة وبعد نفس عميق واصلت_ من الصعب أن يتحدث الإنسان عن نفسه، ويقول صنعت كذا.. وفعلت كذا.. خاصة أمام مايكروفون أو مسجل، رفضت دائما التحدث أمام الصحافة لأنني عادة ما أستذكر ذكرياتي مع عائلتي وأحبابي لا غير، أين يستحضر الماضي نفسه بنفسه ولأنني اعتبرت دائما أن ما قمت به واجبي تجاه وطني الغالي ولا ضرورة للدعاية، ولأول مرة سأدلي  بشهادتي  باللغة العربية، بعدما تحدثت عن جهادي لمرة واحدة فقط عبر جريدة باللغة الفرنسية سنة 2009 .

لا بأس.. أنا من مواليد 09 جوان 1937 ب 23 حي المملوك بقلب القصبة سيدي أمحمد شريف أين ولد كل أجدادي، من عائلة بسيطة أنا البنت الوسطى توفيت والدتي لما كان في عمري 13 سنة، وأختي الكبرى ربيعة 15 سنة هي الأخرى أيضا كانت مجاهدة عانت من أجلنا كثيرا لأن كل المسؤولية وقعت على عاتقها بعد موت أمي و تركت أختي الصغرى في المهد”9 شهور”، أخي الكبير محمد كان مجاهد أيضا، أما عن والدي فكان أمنا وأبانا في نفس الوقت، بعدما تركت أمي 7 إخوة، سعيد، رابح، دحمان، عبد الكريم، زهور..

ولدت ونشأت في وسط يعد الخلية الأساسية للنشاط الوطني في الجزائر “القصبة”، من أصل بربري بجاوي،  وبعدها انتقلنا للسكن في بومارشي بسيدي عبد الرحمان بالعمارة _ب_ الذي كان يسكنها الكثير من الوطنيين آنذاك أمثال سيد علي عبد الحميد وجمعية مامية عيسى” شنتوف” والتي أسست بعد حصول بعض المثقفات الجزائريات على اعتماد تشكيل جمعية تهتم بالأدب وشؤون المرأة تنشط سريا للتعبئة السياسية وتقوده عيسى مامية، حمود نفيسة لاليام، و زكار فطيمة، ساكر زبيدة، خالدي بالإضافة إلى  حفاف سليمة زوجة بن يوسف بن خدة و  مليكة مفتي وباية مبروكي وكذا زوجة لمين خان وشوقي مصطفاي . وأخريات، حيث كانت صليحة وكلثوم تجمعان هذه الجمعة وهما من عائلة والدة سيد علي عبد الحميد،  كانوا يطلبون منا نحن الصغار أن نبقى أمام الباب لكي ننبهم بقدوم أي أحد، كنت أبلغ من العمر حينها حوالي 13 سنة، لما كانت تعقد اجتماعات نسيوية والتي كان الغرض منها تعبئة النساء الجزائريات من أجل فكرة الاستقلال بهدف التنظيم والتعزيز لحماية الوطن، دون التفكير في ذلك الوقت عن تنظيم مسلح أو ما شابه، كبرنا في هذا الجو المفعم بحب الوطن.

كيف إلتحقت بصفوف المناضلين هل كان الأمر سهلا؟

الأمر كان صعبا في البداية، فقبل اندلاع الثورة أعتقل أخي الكبير محمد، ولم يكن الوحيد بل كنا نشهد اعتقالات يومية للكثيرين، وكان كل من يفتح فمه بكلمة يعتقل، وبقينا على هذه الحال إلى حين اندلاع الثورة سنة 1945، أعتقل أبناء جيراننا كمصطفى بن شيخ الذي اختفى دون رجعة، والعسكري الذي سمي الحي على اسمه بعد الاستقلال، الذي قبض عليه وعذب وقتل، سيد علي عبد الحميد مرة يعتقل وأخرى يطلق سراحه، زوج زهور طوبيس كذلك، واليوم الذي يطلق فيه سراح أحدهم هو بمثابة عرس في الحي إذ تعلى الزغاريد وتعم الفرحة بين الجيران، لقد عشنا الثورة قبل اندلاعها بمدة طويلة، وبدأت أحاول بكل الطرق بعد اعتقال أخي محمد أن أصل إليه، وأعرف مكانه، بدت الأمور لي جد صعبة لأن التواصل مع الإخوة المناضلين وقت الثورة لم يكن بالأمر السهل، لكنني لم أيأس.

كان ابن عم أمي “عليوان أحمد” مجاهد كبير ومعروف في القصبة لديه دكان يبيع فيه ملابس الأطفال بالتقسيط كما كانت تعقد فيه اجتماعات المجاهدين ك”كريم بلقاسم” و”عمران” وغيرهم، معظمهم مر عبر هذا الدكان، بدأت بالعمل معه آنذاك كحلقة وصل بين المناضلين بأوراق صغيرة أنقلها من مكان إلى آخر،  إلى أن تم اعتقاله في فترة بن مهيدي رحمه الله، وبعد القبض على المجاهد عليوان أحمد الذي كان قائدي الرئيسي توقفت لمدة شهرين تائهة متسائلة كيف أتصل بالإخوة؟ كيف؟ كيف؟

كانت عندي صديقة اسمها صليحة كنت أعرف أن أخاها مناضل، طلبت منها أن توصلني إليه وبفضلها عدت للعمل معهم دائما كحلقة وصل لكن هذه المرة بنقل الطرود الكبيرة نوعا ما أين تعرفت بسعيد باكال الذي كان قائدا كبيرا آنذاك.

و بعد مرور شهور كلفت بمهمات أكثر خطورة من نقل أوراق صغيرة وطرود  إلى نقل الأسلحة والقنابل من مكان إلى آخر، حيث تغيرت الإستراتيجية للانتقام من سياسة الإعدامات والقتل الذي انتهجتها السلطات الفرنسية ضد الجزائريين الذين  لم يجد قادتنا حل آخر سوى المعاملة بالمثل، كان عمري آنذاك 19 سنة.

وبعدها لما كنا في قومبية ب سوسطارة مع سعيد باكال و خيرة واليكان، بدأ العسكر الفرنسي يتتبع خطواتنا وتحركاتنا، وبدأت القصبة تفرغ من مناضليها اللذين ملئوا السجون، وفي الوقت نفسه عائلتي تبحث عني، فبعث لي أبي برسالة تحذير طالبا مني أن أتوخى الحيطة والحذر وأن أتفادى العودة إلى المنزل لأنهم يبحثون عني وكل البيوت الجزائرية لم يكن بوسعها أن تخفي أي كان بسبب العسكر الفرنسي الذي كان يفتش المنازل ليل نهار، فلقد غيرت العمليات السالفة الذكر مجرى الأمور حيث بينت بأن نشاط جبهة التحرير الوطني، وبمدينة الجزائر قد اجتاز الحدود المألوفة إلى الإقدام على أكثر الأعمال جرأة.

ذهبت إلى أختي التي كانت تسكن في بوزريعة المسماة آنذاك “باغاناز”، وهناك كانت شابة تبيع الخبز وهي “مليكة إيغل أحريز” التي كانت تدرس معي لسنوات في الابتدائي شاء القدر ليجمعنا مرة أخرى، جلسنا نتبادل أطراف الحديث والثورة قائمة..زوج أختي موقوف وإخوتي كذلك، كنت أعلم أن عائلاتها تملك فيلا صغيرة في بوزريعة المسمات آنذاك “ماستوك الصغير”سألتها عنه، ولم تبخل بمساعدتي وطلبت مني أن أتحدث مع أمها عن الأمر، وانضمت إلينا هي الأخرى بنقل السلاح من مكان إلى آخر في عديد من المرات.

بأمر من سعيد باكال ذهبت إلى والدة “مليكة إيغل أحريز” أين وجدت أخاها مستلقيا على الفراش، وهناك تعرفت على”لويزة أوداغان “، سلمت وصل استلام الفيلا لوالدة “مليكة إيغل أحريز” وقلت لها إن جاء العسكر الفرنسي وسألك قولي أخذوها بالقوة، وذهبت مع “مليكة إيغل أحريز” وأحضرنا “سعيد باكال”، وواصلت “مليكة إيغل أحريز” العمل معنا فبعدما تنتهي من عملها ببيع الخبز تلتحق بنا على الساعة الثانية والنصف زوالا، وتحضر لنا الخبز معها، وبعدها أصبحنا نتلقى الأوامر من القائد ياساف الذي نظم عدة هجومات سواء بالأسلحة أو بالقنابل، وكلفت بمهمة وضع قنبلة مع الصغير فراحي الرشيد الذي كان يتردد إلينا بدراجة صغيرة، وضعنا القنبلة داخل صندوق وكلفنا بوضعها أمام مركز الشرطة، والتي كانت محاطة برجال الشرطة ولم نجد مكان للركن، فتوجهنا إلى حي “تخونس فارسال” وتركنا الدراجة بصندوق القنبلة هناك، وعندما ركبنا القطار سمعنا القنبلة تفجرت وفرحنا كثيرا لأنه عادة بعض القنابل تتلف ولا تنفجر.

وبعد ذلك؟

بعد ذلك رجعنا إلى المقر ب”بوزريعة”، وواصلنا هكذا أنا و”مليكة إيغل أحريز” دون سماع أي خبر عن عائلتي، وكلفت معها بمهمة بسيارة سعيد باكال لجلب الأسلحة من عند “يحياوي” الذي قدم لنا أربعة مسدسات لأن السلاح لم يكن متوفر بكثرة، مع العلم أننا لا نعرف تفاصيل الأوامر بل نقوم بتطبيقها فقط، لأننا كنا جنود مكلفين، مثلا في أحد الأيام أحضرت”قفة” من عند النجار سيد أحمد رحمه الله بها كل أنواع الخضر من فوق و18 قنبلة من الأسفل كانت ثقيلة جدا وأخذتها إلى السعيد باكال، جاء فراحي الرشيد إلى بوزريعة وأخذهم إلى أين لا أعرف؟

أنت واحدة من مئات المناضلات اللواتي كتب لهن سوء الحظ أن يسقطوا في قبضة العدو حدثينا عن ذلك؟

بعد مرور أيام، بعض المعتقلين، وتحت وطأة التعذيب اعترفوا بأسمائنا  وبأوصافنا، مع السعيد باكال وحسن قندريش رحمه الله الذي كان مطاردا منذ مدة الوحيد، الذي كان باتصال مباشر مع الأخ الأكبر على ما أعتقد كان “ياسف سعدي قائد المنطقة المستقلة للتجنيد”، حيث أوكلت لي مهمة السكرتارية  و كتبت عدة رسائل للأخ الأكبر دون أن أعرف ماهيته.

ليلة توقيفنا على الساعة الواحدة صباحا كنا أنا و”زهية تاقليت” التي تعتبر من عائلة ثورية ببلوزداد” في غرفة بفيلا “ماستوك الصغير” فدخل “سعيد باكال” و”حسن قندريش” المدعو “زروق”، وقالوا لنا نعتقد أن هذا اليوم سيكون نهايتنا_ بصوت هافت _قال سعيد يا إخوتي ها هو السلاح والموت واحد، حسن منعه من استعمال السلاح، وفي الأخير تغلب رأي زروق”حسن “على “سعيد باكال”، ولم يكن لنا الوقت للاتفاق عن الحل وجدنا أنفسنا محاصرين من كل مكان ووضعونا في شاحنتهم بطريقة فضيعة جدا، وعاملونا معاملة بشعة، فالإخوة نزعوا لهم ملابسهم وأطفئوا السجائر في بطونهم، ضربوهم ضربا مبرحا،  ونحن البنات بين بوزريعة وسوسطارة أفقدونا كرامتنا، أنا و”زهية تاقلييت” مقيدين وأيدي العسكر الفرنسي تلمسنا في سائر جسمنا بكل وقاحة وبشاعة، قرأنا الشهادة قبل أن نصل إلى سوسطارة.

ماذا عن سنوات السجن؟

لما وصلنا إلى أشهر مؤسسات التعذيب “مدرسة ساروي” سنة 1957 أين وجدنا كم هائل من الإخوة والأخوات يعانون ويلات التعذيب، عذبت بأبشع الطرق كانوا يتفننون في تجريدني من ملابسي، يرموها بعيدا ويطلبون مني إحضارها..  بدموع حارقة تصمت للحظات ثم تقول: كان يطوف علي أحد الجنود ويقوم بتلمس جسدي بعصا بها إسفنجه مبللة في كل أنحاء جسمي وبالأسلاك الكهربائية والأحواض المائية من جهة أخرى، كلنا طلبنا الموت لننعم بالراحة، قابلنا الموت في أبشع صوره كل لحظة، لما أخذونا إلى سركاجي، كانت جلسات التعذيب، التي تقام بذريعة التحقيق، لنذوق قسوة التعذيب الذي تعرضنا له، وبشاعة ما يمكن لبني بشر، فاقد لصفات الآدمية، فعله بالإنسان، رغبة في قهره، وإذلاله، والحطّ من قيمته، والنيل من كرامته، وانتهاك عرضه، وتحويله عن مساره الذي اختاره، والمبادئ التي آمن بها، لم يترك العسكر الفرنسي وسيلة للتعذيب لم يمارسها، ولم يترك للمخيلة الشيطانية أن تجترح أكثر مما فعل، كلمات قليلات كانت كافية للدلالة على ما كان يجري في أقبية سجون الاحتلال، وخلف قضبانه، وفي زنازينه، ليست الذاكرة فقط تلك التي لا تستطيع نسيان ما حدث، بل إنه الجسد أيضاً لا يستطيع التخلص من الآثار الدامية للتعذيب الوحشي، الذي فتك بأنوثة النساء، وجعلهن غير قادرات على الحياة السوية للمرأة، سيبقى الجسد شاهداً على محاولات تحطيمه، النيل منه، تفتيته، وتدميره.. وإذ تمضي السنوات، فإن ثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن الخارجين من سجون الاحتلال ومعتقلاته، محقونين بالعلل، وقد زرع المحتل شوكة عطب في الجسد.

وهناك في المحكمة سنة 1958  بعد تحقيقات وتعذيب كبير لكل الإخوة والأخوات حكم عليا بالمؤبد، كان من المفروض أن يحكم عليا بالإعدام، لكن في ذلك الوقت لما أصبح الجنرال ديغول رئيس للحكومة الفرنسية و قرر عدم جميلة بوحيرد لتكون عبرة لغيرها، وبمساعدة جاك فيرجيس المحامي الفرنسي الذي أقنعه بأن لا يتكرر سينارو الأميرة ماغي أنتوانات التي أعدمت في  الماضي ببلدهم وبمساعدة كذلك بعض أصدقاء الثورة، قرر ديغول  إعفاءها من الإعدام مع الخمسة المحكوم عليهن بالإعدام “باية الحسين التي كانت أصغر واحدة كان في عمرها آنذاك17 سنة، و الجوهر آكرور وزهية خرف الله، جاكلين قروج، وجميلة بوعزة”، وفي مكان الحكم بالإعدام جاء الحكم بالمؤبد، وأما أنا حكم عليا بالمؤبد بعد أن انتهت المحكمة بتوجيه تهم إحراز مفرقعات وتدمير مبان بالمفرقعات والاشتراك في حوادث مماثلة والانضمام إلى جماعة مسلحة من القتلة.

بقيت بالسجن لمدة  5 سنوات كأغلبية الأخوات، وبعد خسائر بشرية باهظة، تم في سنة1962 توقيع اتفاقيات إيفيان وإعلان استقلال الجزائر، ومع تقدم سير المفاوضات بإطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجياً، أطلق سراحي مع بقية الإخوة والأخوات.

من زرع فيك الوطنية لتخوضي غمار التضحية وحب الوطن وأنت شابة صغيرة؟

العائلات الجزائرية كانت كلها ثورية فالثورة دخلت بيوتنا وحب الوطن كان يمشي في عروقنا، فيفي ذلك الوقت، تحولت البيوت الجزائرية إلى مدارس ثورية، تنجب المناضلين والمناضلات، وصارت تشكل رافداً ورديفاً لقواعد الثورة، ومأوى لخلاياها، ومحطة لعونها، ولذلك فقد عمد المرة بعد الأخرى إلى اعتقال الكثيرين، مرة بعد أخرى، وبمقدار ما انتشر هذا الجبروت من المستعمر فقد انتشرت في أوساط الجزائريين تلك الوطنية، التي تؤكد أنهم لن يهتموا ببطش الطغاة، ولن يمنعهم ذلك من مواصلة درب الثورة، فعد الاعتقال، وتفتيش البيوت، الزج بالسجون أين تبدأ مرحلة جديدة من النضال بالمكوث خلف القضبان والأبواب المغلقة، والعيش تحت المراقبة، وممارسة الحياة تحت السيطرة، وكل أنواع التعذيب.

 ماذا بعد الإستقلال؟

قبل أن أجيبك عن هذا السؤال لا بد أن أشير إلى أصدقاء الثورة من أصل فرنسي أو يهودي كذلك جاهدوا وناضلوا وساعدونا بكل إخلاص، كما عذبوا في السجون أيضا مثلهم مثلنا رافضين الظلم والطغيان ك “جون ماري فخونساز المرأة الرائعة” التي حكم عليها بثلاث أو أربعة سنوات قضتهم معنا بالسجن، فيفي، ليسي، جاكلين قروج، وغيرهن، والإخوة كذلك كمايو..لذلك لا نقبل بالعنصرية فمن المستحيل أن ننسى ما قاموا به في سبيل الاستقلال على حساب وطنهم الأصلي.

بالعودة إلى السؤال، بعد الاستقلال أقترح عليا الذهاب إلى تونس لأغير الجو، كباقي الأخوات لكنني رفضت الذهاب وفضلت البقاء مع عائلتي التي أبعدتني عنها الظروف والسنين وهذا ما حصل، عدت إلى أحضان أهلي وعملت كنائبة مديرة في سوق الفلاح لمساعدة والدي في مصاريف المنزل، وتزوجت بالمجاهد الكبير عبد القادر ظريف أواخر 1962، بعدما تعرفت بأخته زهرة ظريف في السجن وقت الثورة، والحمد لله أنجبت منه ولدين وبنت أحمد، الهادي، وليلى.

بماذا تصفين المرأة التي عايشت الثورة في الجزائر؟

بعدما دخلت الثورة إلى بيوتنا ألبست كل الجزائريين الروح الوطنية، والمرأة الجزائرية الكنز الذي لا يوجد مثله في وطن آخر هي أول من سبلت حياتها لحماية وطنها، وهي الزوجة والأم والشهيدة والفدائية والمناضلة، لا يمكن لأي شخص يدرك الواقع الصعب الذي تعيشه الأسرة الجزائرية منذ عقود أن ينكّر الدور الكبير للمرأة ، ففي غالب الأحيان كانت في الجبال والمناطق النائية، طبخت وأوت واشتغلت كممرضة، وعذبت أبشع تعذيب، وكانت اليد اليمنى للرجل دائما.

ما جاء في هذا الحوار لا يعكس إلا الجزء القليل من شخصيّة هذه البطلة الفذة وحياتها النضالية الحافلة بالحقائق والدروس الوطنية، غنية بلقايد الوحيدة المحكوم عليها بالمؤبد من حملت القنابل وهي في رياعان شبابها ووضعتها في الأماكن المناسبة تحمل مشعل الحرية لتضعه بين أيدي شباب اليوم بكل إخلاص وحب من خلال ذكرياتها وشهاداتها التي أدلت بها لنا بعدما تمكنت من تنفيذ مهام ذات ثقة، ليسجل التاريخ ما فعله المستعمر الغاشم في ذاكرة وجسد جوهرة نادرة، جميلة من الجميلات الجزائريات، وفي عقلها، وفي عفتها إلى درجة أصبحت فيها معظم ممن نجو من هول ذلك الجحيم غير قادرات على تصور جسامة ما شاهدنه، وما عايشنه، وعاجزات عن نقل ذلك إلى حقل التاريخ.

تعليق واحد

أضف تعليقاً