بين الشاعر والباحث الجزائري رابح بلعمري والأديب المصري طه حسين، قواسم مشتركة عديدة؛ فقدا بصرهما منذ الصغر، لم تمنع إعاقتهما من تحقيق النجاح في دراستهما التعليمية، إذ بلغا في ذلك مستوى أكاديميا رفيعا، ناقشا رسالة الدكتوراه في كبرى الجامعات الفرنسية؛ تعرّف كلاهما على سيّدة فرنسية هناك، اهتمتا بهما، ووفرتا لهما أسباب الراحة والاطمئنان.
بقلم: بوداود عميَر
الشاعر والباحث الجزائري رابح بلعمري (1946-1995) والذي مرّت ذكرى رحيله منذ فترة ليست بعيدة، دون إشارة أو التفاتة تذكر للأسف؛ لا يقل شأنا وقيمة عن كبار الكتّاب الجزائريين باللغة الفرنسية، عن كاتب ياسين ومولود معمري ومحمد ديب وآسيا جبار ومالك حداد على سبيل المثال لا الحصر. بل يتفوّق عليهم جميعا بخاصيتين أساسيتين صنعتا مساره الحافل بالنجاح في الأدب والحياة. على الصعيد الإنساني، فقد رابح بلعمري بصره، شابا صغيرا، لم يكن يتجاوز 16 من عمره عندما صار كفيفا، لكن عزيمته وإرادته كانت أقوى، هكذا التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر العاصمة، قبل أن ينتقل إلى باريس عام 1972، ويلتحق بجامعة السوربون الشهيرة ليحضّر بها الكفاءة ثم الدكتوراه.
الخاصية الثانية التي تميّز بها مساره الأدبي، تأليفه مجموعة معتبرة من الكتب التي تهتم بالتراث الشعبي الجزائري، خاصة الحكايات الشعبية الجزائرية لمنطقة سطيف والشرق الجزائري عموما؛ والتي قام بجمعها وتنقيحها وترجمتها، ساعدته في ذلك ملكة الإنصات التي عوّضت فقدانه البصر؛ من بينها كتاب: “عصفور شجرة الرمان”، وكذلك “حكايات من الجزائر”، الذي يضمّ 17 حكاية شعبية جزائرية. يقول رابح بلعمري في هذا السياق: “آن الأوان لجمع كنوز ثقافتنا الشفهية المهددة بالانقراض بفعل الإقبال الشديد على مشاهدة برامج التلفزيون. اليوم، للأسف في الجزائر، يتم تنظيم السهرات العائلية حول الشاشة الصغيرة، ولم يعد لدى رواة الحكايات الوقت أو لم يعد يجدون الفرصة ولا الضرورة للحكي.
هكذا حاولت قدر المستطاع إنقاذ جزء من تراثنا الثقافي من النسيان. جمعت هذه الحكايات باللهجة الجزائرية، وكان علي أن أترجمها إلى الفرنسية؛ قد تتيح لها هذه اللغة الخروج من العزلة، وتدفع بها صوب التراث الثقافي العالمي”. كتب رابح بلعمري في الشعر والقصة والرواية والسيرة الذاتية، صدرت له من طرف أشهر دور النشر الفرنسية، نالت استحسانا واسعا وأثنى على كتاباته العديد من الكتّاب الجزائريين والأجانب، من بينهم الكاتب الفرنسي لوكليزيو صاحب جائزة نوبل للآداب، الذي قال عن أعماله: “تتحدث أعماله عن صعوبة الوجود، عن المنفى والوحدة، لكنّها تتحدّث أيضا عن مشاعر الحنان، وتحملنا في زخمها صوب المقهورين، وكلّ الذين يتخلى عنهم ويسحقهم العنف المعاصر”؛ وقال عنه الكاتب الجزائري الراحل الطاهر جاووت: “بالنسبة لرابح بلعمري، الذي لا يتعب في مساءلته العالم، فإن الشعر بلا شك وسيلة يتقاسمها مع الآخرين في البحث عن الوضوح والكمال”.
يقول رابح بلعمري في مذكراته: “قضيت عامين دون دراسة، بسبب فقدان بصري، لم أكن أعرف يومها أنه يمكن للمكفوفين القراءة بواسطة طريقة برايل؛ مكثت خلال هذين العامين بالمنزل في حيرة من أمري. الراديو وحده من أنقذني؛ كنت استمع كثيرًا إلى برامج الراديو، وبسبب الراديو اكتشفت أن هناك وسيلة تتيح للمكفوفين القراءة والدراسة: طريقة برايل.
استمعت لعناوين وكتبت إليهم؛ سرعان ما توفرت لدي المادة اللازمة لتعلم القراءة والكتابة بطريقة برايل، وقد تمكنت من تعلم هذه الطريقة بمفردي، في المنزل، قبل الدخول إلى مدرسة للمكفوفين في الجزائر العاصمة، التي التحقت بها عام 1964؛ عندما وصلت إلى هذه المدرسة كانت الفرصة بالنسبة لي للعودة، بطريقة ما، إلى معترك الحياة”.
هكذا ورغم الإعاقة، سيواصل بلعمري متابعة دراسته بعزيمة وتحدّ، وسينجح، وسيتوّج مساره الدراسي بالالتحاق بجامعة السوربون سنة 1973؛ هناك سيناقش رسالة الدكتوراه حول موضوع الإيديولوجية الاستعمارية، التي سيقوم ديوان المطبوعات الجامعية فيما بعد، بطبعها سنة 1980.
ولكنه لم يكتف بمسار أكاديمي ناجح، سيكتب أدبا راقيا في الشعر والنثر؛ في سنة 1987، سيتحصل على جائزة أدبية مرموقة من الإذاعة الثقافية الفرنسية، عن روايته السيرية: “نظرة جريحة”.
للأسف لم يعد طبع أعمال رابح بلعمري رغم قيمتها وأهميتها، خاصة تلك التي تناولت بالبحث والتدقيق التراث الشعبي الجزائري، ولم تترجم إلى اللغة العربية في حدود علمي، ما عدا بعض القصائد الشعرية التي قامت الشاعرة والمترجمة لميس سعيدي بترجمتها ونشرها في بعض الصحف والمجلات. رحل رابح بلعمري رحمه الله، بعيدًا عن بلده، في ريعان شبابه وفي أوج عطائه، لم يكن يتجاوز من العمر 49 سنة، ورغم فقدانه البصر، وصراعه مع المرض؛ لكنه ترك أعمالا إبداعية خالدة في الشعر والقصة والرواية، وأبحاثا ودراسات بالغة الأهمية في التراث الشعبي الجزائري.
رابح بلعمري، ليس فقط الأديب الناجح والمتألق، ولكنه النموذج الحقيقي في تحدّي الإعاقة وفي الإصرار؛ لذلك كله، يستحق أن نعيد له الاعتبار، بترجمة أعماله وإعادة طبعها من جديد، وإتاحتها للتلاميذ والطلبة في المدارس والجامعات.