القوال في المسرح الجزائري، تجريب متجذر في التراث

0
600

 عرفت الحركة المسرحية في الوطن العربي تجارب مختلفة ارتبط قليل منها بالنص واتجه معظمها إلى الخشبة “السامر، الحكواتي، القوال، الاحتفالية، التسييس…”،  ولعل من أهمها تجربة القوال أو الحلقة التي أينعت في بلاد المغرب العربي، وبالأخص الجزائر، استلهاما من موروث يضرب بجذوره في القدم حيث كان القوّال يتنقل في الأسواق الأسبوعية ويلقي حكاياته على الناس، يستعين عادة بالضرب على دف ليجمعهم، وحين يتحلقون حوله جلوسًا ووقوفًا يشرع في حكايته التي تكون غالبًا دينيةً كقصة النبي يوسف وزليخة أو قصة علي بن أبي طالب قاهر الغول والكفار، أو تكون شعبيةً كبقرة اليتامى أو ذياب الهلالي.

وقد استُدعيتْ هذه التجربة إلى للمسرح على يد كثير من رجاله، ومن أشهرهم ولد عبد الرحمان كاكي الذي استعان في عروضه بفن “القوّال” وأدخل الأجواء الشعبية الاحتفالية، وبنى مسرحه على التراث المشهدي والشفوي المحلي، هادما لهندسة المسرح الإيطالي مقوضا لقوانينه مانحا الممثل حرية الحركة والتنقل وتغيير الأزياء والمَشَاهد أمام الجمهور، مقدما عرضه غالبا في شكل احتفالي، وبالتالي فهو لم يتوقف عند تجربة القوال، بل انفتح على تجارب مختلفة منها المسرح البريختي والاحتفالي.

وقد سار على ذات الدرب عبد القادر علّوله، الذي يمكن أن نوعز إليه مسرح الحلقة بمفهومه الحقيقي، وقد تأتى له ذلك بعد العرض المتكرر لمسرحيته “المائدة” سنة 1972 في الهواء الطلق في أوساط الفلاحين، إذ لاحظ أن هؤلاء كانوا لا يواجهون الممثلين وإنما يتحلقون حولهم في شكل دائرة/ حلقة، مما فرض على الفرقة المسرحية التخفف من ثقل الديكور، بل والاستغناء عنه تمامًا بعد ذلك، مما حقق ارتياحًا لدى المتلقين، الذين ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا، فكانوا يديرون ظهورهم للعرض كلّما شعَروا بالضجر، دون أن يفقدوا علاقتهم بالعرض فكانوا يتابعونه سماعا، وذلك ما دعا علّوله إلى الاهتمام بالطاقة السمعية لدي متلقي مسرحه، فأعاد النظر في شكل اللعب والتمثيل، وقد تُوِج بحثه في هذا الباب بثلاثيته الرائعة الشهيرة “الأقوال” 1982، و”الأجواد” 1985، و”اللثام” 1989.

والمتأمل لهذه الأعمال السابق ذكرها يلاحظ أن علوله لا يركز على الحوار يسنده إلى الشخصيات لتتصارع به وتتطور وتنمو كما هو معتاد في المسرح، سعيا لتحقيق الفعل، وإنما يورده ضمن تقنيات أخرى السرد الأخرى حتى ليكاد يختفي بين طياتها مما يجعله لا يختلف عن الحوار في الرواية والقصة، تحقيقا لتقنية الحكي التي تتصف بها تجربة مسرح القوال.

ولا يعني ذلك أبدا اغتيالا للمسرْحة، وإنما يعول علوله- وهو كثيرا ما كان يقدم نصوصه- على الممثل، يتقمص الحكاية ويؤدي الأدوار داخل الحلقة، مستعينًا بقدراته الجسدية من حركة وإشارة وإيماء، يتحرك بحرية داخل الحلقة من أجل إثارة المتلقين، مستعينًا ببعض الديكور الذي يظل ثابتًا أو يكاد طيلة تقديم العرض، فيمتزج الحكي بالفعل.

إن من أهم خصائص مسرح القوال هو التحام الممثل والمتفرج في بناء العرض، حيث يندمجان كليًّا فيه، ويمكن لأحدهما أن يوجه الآخر، فلا ستائر ولا حواجز ولا جدار رابعا بل ولا جدار على الإطلاق، إذ يمكن للقوال أن يفرض سطوته على المتلقي فيأخذ بيده إلى حيث يريد في مسارات الحكاية، كما يمكن للمتفرج أن يقاطع القوال ويطلب منه تغيير المسار أو إضافة مقطع أو أغنية أو تسميع معزوفة، وينتقل القوّال من مجرد رواية الأحداث إلى تمثيلها وتقمصها إلى مستوى عال من التجريد.

إن القوال ليس مقدمًا للحكاية فقط، وإنما قد يكون جامعًا لجملة من الفنون، كأن يكون مغنيًّا صاحب صوت شجيّ مؤثر، ويكون عازفًا على الناي أو الزرنة أو الرّباب، ويكون ضاربًا على الدف، ومقلدًا للأصوات، وراقصًا، ومتقمصًا للأدوار، يحسن كيف يلقي واقفًا أو قاعدًا، وكيف يلقي ثابتًا أو متحركًا، ويحسن أن يلقي بصوت خافت أو مرتفع، ويحسن أن ينطق كما يحسن أن يصمت، يعتمد الحركة والإشارة والإيماء، ويخض مخيلة المتلقي يعصف به بين الأحداث والأزمنة والتقنيات.

في تجربة عبد القادر علّوله، وانطلاقا من نصوصه التي كتبها لا يقتبس من الموروث إلا شكل القول معتمدًا على ذاته في خلق الحكاية التي عادة ما يربطها بواقع المجتمع آنذاك، المجتمع الناهض من كبوة الاحتلال الساعي إلى بناء مستقبل أجمل، مستقبل المعرفة والرقي والمساواة، إن عبد القادر علّوله وهو يبحث عن شكل مسرحيّ جديد في الموروث الشعبي، لم يهمل تمامًا الدور الكبير الذي يقوم به هذا الفن في النهوض بالمجتمع ونشر الوعي في أفراده، إنه المسرح الرسالي المرتبط بعمق المجتمع فكرة وتقنية.

عزالدين جلاوجي

أضف تعليقاً