المصطلح والحضارة
إن معرفة المصطلح تعدُل معرفة العالم، لأن المصطلحات عالمية من حيث مفاهيمُها، وبطريقة أو بأخرى يجب أن يفهم الناس أو المثقفون بالأحرى كمرحلة أولى، يجب أن يفهموا مقامَ المصطلح ومقالَه، وأنه والكلمة ليسَا سواء، وأنَّ المصطلح كفيل بصناعة الحضارة إذا ما توغل في ذهنيات المجتمع _ أي مجتمع _
لعل هذه الجملة الاعتراضية التي تدعو إلى تعميم وجود مقومات الحضارة في كل المجتمعات الإنسانية ستوقعنا أو ستوقع غيرنا في تساؤل مفاده: أنْ ليست كل المجتمعات تحمل في جذورها بذور قيامها، وهنا سيمنحنا المصطلح في حد ذاته إمكانية الإجابة على هذا التساؤل، وهو أنه _ المصطلح _ تسمية ومفهوما وتصورا لا يقوم إلاَّ في بيئة معرفية بأتم معنى الكلمة، حتى إذا أردنا التفصيل في ذلك وجدنا أن كلمة ” بيئة معرفية ” تشمل مختلف أنواع القابلية لصناعة العلم، ابتداء من النفسيات القابعة في الأفراد ذات التوجه الإيجابي في النظر إلى المعرفة، والتي تتكون ثقافيا باتصالها مع الماضي الثقافي للأمة، وبعدم استغناءها عن مَعين العلوم الآنية، إضافة إلى ذلك لا يقوم المصطلح إلا وسط مجتمع يعرف حركية علمية في شتى المجالات، على اعتبار أن المصطلح تسمية جديدة وتصور مستحدث.
في مجتمع غارق في ازدواجية لغوية، تسيطر عليه اللهجات العامية التي لا يُصنع منها المصطلح، سيُنظَرُ في موضع اجتماعي إلى متكلم مثالي _بتعبير اللسانيات الحديثة- يتحدث اللغة الرسمية الرئيسة لذلك المجتمع، سيُنظر إليه من ناحية أنه (متفيقه)، هذا حال المجتمعات التي تحيدُ عن مسار العلم والمعرفة، وهنا فلنَهَبْ أن كل أفراد المجتمع سيقررون الارتقاء بمستوى الكلام للحديث فيما هو راهن من العلم، سيتطلب الأمر بالضرورة الانتقال إلى مستوى آخر من اللغة، يُعرف بالمستوى الفصيح، وهذا شرط أساسي أول، أما الشرط الثاني فهو ما يفرضه الحديث في أي علم من العلوم، إنه شرط المصطلحات، إذ لا تقوم العلوم إلا بمفاتيحها.
لا شك أن هذا النوع من المجتمعات عليه التخلص من هذه العقدة الأولية، عقدة النظر بازدراء إلى كل المثقفين الخائضين في العلم، وبدل نزول هذا المثقف إلى مستوى العامة من الناس، وجب أن تحاول هذه الفئة من المجتمع أن تصعد إلى مستواه أو ما دون ذلك بقليل، لا يُفهم من هذا وجوب خوض الجماعة في كافة العلوم حتى يختلط من هو دون العلم بمن هو أهل له، لكننا ونحن نرى التكاملية التي تتسم بها العلوم في الثقافة المعاصرة، ومدى اشتراكها في كثير من المعارف، وجب أن يكون أفراد المجتمع على علم تام على الأقل بأبجديات العلوم الإنسانية منها والتجريبية.
ومن هنا، وجب أن نشير إلى أن عددا غير قليل من المصطلحات العلمية في مختلف العلوم، وعلوم التّقانة بالخصوص قد كُتب له تداول واسع في أوساط المجتمعات (النامية)، ولكن للأسف في غير محلها التي وضعت لها، أو في غير وظيفتها، لا ندري ههنا أهذا محاولة فطرية إيجابية _ إن أمكن القول_ يستخدمها الإنسان لا إراديا في سعيه الحثيث لأن يكون الأفضل دائما ولو على مستوى اللغة والتعبير؟ أم هي من ناحية أخرى شيء سلبي لا طائل منه، ولا بد إذ ذاك من تحكيم معيار المصطلحية المعاصرة الذي يقتضي التعبير بالمصطلح الواحد عن المفهوم الواحد في الحقل المعرفي الواحد؟
إن معرفة المصطلح تعدُل بناء الحضارة نعود لنؤكد، وإن الخائضين في مجالات المصطلحيات المعاصرة يَمِيزون عن طريق الممارسة بين مستويين اثنين، أحدهما خاص بالمستوى التواصلي للغة ( لا نعتبره كافيا )، والآخر وهذا شيء مهم جدا، خاص بالمصطلح، وحقيقي أن المصطلحات أيضا تحقق التواصل بين أفراد المجتمع الواحد، ولكنه ليس الدور الرئيس المنوط بها، ذلك أن كثيرا من المصطلحات لا تتوصل إلى مفهومها إلا فئة قليلة من الناس يوسمون بأهل الاختصاص، ولكن المشروط ههنا وفي ظل مجتمع المعرفة والمعلومات الحالي، وهذه جملة جد مهمة حينما نوظفها في حقل المصطلحية، المشروط هو محاولة إقامة قاعدة مفهومية مشتركة يتكئ عليها أفراد المجتمع، أو لنقل السائرون في درب اختصاص معين، ومصطلحات التّقانة ههنا تعطينا أحسن مثال لذلك، إذ يشترك في ضرورة فهمها المتخصصون في مجالات اللِّسانيات، والطب، والهندسة، والرياضيات، وهلم جرا.
عبد الوهاب حنك