دقائق الانتظار تتمطى وتتمدد، حين لا يكون أمامك سواها. تفرّست ” أمينة” في الوجوه الواجمة المقابلة لها؛ الكل ينتظر، دوره في المعاينة، عند اختصاصي العظام؛ من الجيد أنها اتصلت مسبقا لحجز موعد، وإلا فما كانت لتنجح وتمر أبدا، أمام هذه الحشود المتأوه أغلبُها، هل يُعاني كل سكان المدينة من آلام العظام ؟!
المشكل أن طبيب الأسنان، واختصاصي الأعصاب، وطبيب الغدد، والأمراض الباطنية، يشهدون كلُّهم نفس الاكتظاظ وأكثر، عند باب عياداتهم، وفي قاعات الانتظار، أما أطباء النساء والتوليد، فحدّث ولا حرج ! المجتمع كله يعاني من مرض واحد على الأقل !
كانت تحب قراءة الأوجه، وما تخُطّه عليها الأيام من حكايات، تكمل صياغتها، في الغالب، من نسج خيالها..لكنها كانت متعبة من ذلك، في ذلك اليوم، ومن ألم الكتف الذي جهدت في تسكينه بالمهدئات، دون جدوى.
تناولت هاتفها، وشرعت تقرأ كتابا كانت قد حمّلته سابقا.
ألَيْسَ من المُعيب أن تلعبي، وآنت بهذا العُمر ؟!،
قالت ذلك امرأة مُسنّة، وهي تلكزها في وركها؛ ربما أحبّت فتح حوار معها – أو مع أي أحد متوفر – قد يخفف ذلك قليلا من سأم الانتظار !
“أنا لا ألعب، يا ميمة، أنا أقرأ .”
وأدارت لها الهاتف لتؤكد كلامها، لكن كأنها لم تفعل، فقد استرسلت السيدة في حديثها:
” هكذا هي كنّتي، مثلك تماما؛ تهمل عمل البيت والطفل الصغير ( حفيدي)، وتقضي اليوم في اللعب على الهاتف !”
“ماخطب كتفك، أراك تتألمين ..”
يؤلمني، ياخالة، كثرة العمل ربما..
” يعني إنتو كنتو تحطبو الحطب، ولاّ تحلبو البقر والمال*، ولاّ تخبزو الكسرة على النار، مثلما كنا نفعل، على أيامنا ؟”
” لا..!”
” طيب، لماذا تشتكين إذا؟!”
صمتت أمينة عازمة على الصد عن هذا الحديث الذي لا تحسن العجائز غيره، لا شك ان كنّتها
كانت تتنفس الصعداء الآن؛ وتتمنى لو تقضي ” عجوزتها”* طول اليوم تنتظر الطبيب!
أنت متزوجة؟
لا…
للآن ؟؟ وعلاش ماتجريش على روحك يا بنتي؟*
استسلمت أمينة أخيرا للمرأة التي لم يبدُ أنها ستصمت قريبا، فأغلقت هاتفها وأعادته إلى حقيبة يدها وعدلت جلستها لتقابل السيدة تماما؛ خدمة أخرى للإنسانية، لم تكن لتضرها في أي حال !
ماذا تقترحين، يا أمي؟[1]
بلغ الحماس من المرأة مبلغه، فبرقت عيناها واقتربت من الشابة لتقول في شبه الهمس:
شابة مثلك أكيد بها عين أو سحر، لتتأخر في الزواج؛ تعرفي الشيخ ” شقرون”؟
لا، لا أعرفه.
معقول؟ من لا يعرف الشيخ شقرون، سره بادع، يا ابنتي، لقد فكّ سحر بنات جارتي الثلاث،
وبمجرد خروجهن من عنده، انهال العرسان عليهن..وكذلك كريمة بنت الحاج علي…المهم أنه سيحل ربطك.
كان هذا هو المآل المنطقي لحديثها مع المرأة؛ ما الذي قد تعرفه امرأة مثلها غير هذا؟
لكن فكرة لمعت في ذهن أمينة: “أين بيته، يا خالة؟”
في الغد من ذاك، كانت الشابة في طريقها إلى قمة هضبة سُميت خصيصا على اسم الشيخ؛ “سيدي شقرون”، رفقة صديقتها ليلى، كانتا تلهثان وهما تصعدان الطريق الجبلي المتعرج
أنا خائفة جدا، ماذا لو كشفنا الشيخ، أو الجن الذين يتعامل معهم؟، قالت ليلى بوجه ممتقع.
أنت حمقاء؟ أي شيخ وأي جن؟..هل تصدقين هذا الهراء، فعلا؟”
دخلت الشابتان صومعة في أعلى التلة، كانت ممتلئة ب” المرضى”، أغلبهم من النساء..كانت أمينة ترتدي حجابا سابغا ومعه قطعة بيضاء لتغطية الوجه..جلس الجميع منتظرين دورهم، وبعض الديوك السوداء والحمراء تحاول التحرر من الأيدي والسلال التي تحتجزها. قامت أمينة لتهمس شيئا في أذن ” الممرضة” المسؤولة عن تنظيم الدخول، ويبدو أن الرشوة التي وضعتها بيدها، ساهمت في تسريع دورها..و حين احتجت بعض الحاضرات، أجابت الممرضة العجوز بأن أمينة أخذت موعدا مسبقا بالهاتف!!
كانت الغرفة شبه مظلمة، تعبق بالبخور، وروائح غريبة مختلفة، وقد ترامت جلود الحيوانات في كل مكان..كان كل شيء يثير القشعريرة في الجسم. وسط ذلك، كان يقبع رجل سمين بشكل ملفت، والملفت أكثر، هو ثؤلول يشبه الورم كان يعلو أرنبة أنفه..
كان يتمتم بأشياء غير مفهومة، ويرمي، بين الحين والآخر، كمشة بخور في المبخرة الكبيرة التي تتوسط الغرفة تماما. تفرّس في وجهي الزائرتين، وندت عنه حركة غمز بعينه اليسرى، بدت لا إرادية، فخفق قلب الشابتين توجسا..
“اجلسا هنا..أمامي، اقتربا..”، وأشار بيديه إلى جانبي ساقيه الضخمتين المطويتين
جلست الشابتان اقرب ما يمكن منه.
“هل أنتِ المريضة، ابنتي؟”، سأل ليلى التي انتفضت هلعة: ” لا، لا..هي صديقتي، يا شيخ..”
فحوّل نظره الثاقب نحو أمينة -: “أميطي عنك النقاب، ياابنتي..أنت هنا بأمان..”
“لا، يا شيخ، اعذرني..زوجي حالف عليَّ يمين الطلاق ألا يرى وجهي غيره.!”.
” يبدو أنك جميلة جدا، ولهذا يبالغ في غيرته عليك..”، وزاد الغمز اللعين من عينه..
” زوجي متغيّر عليّ، يا شيخ..ولهذا قصدتك.”
” حسنا، سنفتح الكتاب ونرى ما به..”، وتناول مخطوطا مهترئا، اصفرّت أوراقه وتآكلت أطرافه.
” معذرة، يا شيخ، جاءتني مكالمة..”، تناولت أمينة هاتفها وردت على المكالمة، بينما راحت ليلى ترتجف خوفا حين أخذ الشيخ يتمتم كأنه يتواصل مع أرواح من عالم آخر.
” زوجك سببه امرأة، تطارده باستمرار.. ”
” هل هي شقراء، يا شيخ؟ لا تقل لي أنها شقراء، أرجوك..! ”
” نعم، شقراء وحسناء..”
” أرأيت، يا ليلى، إنها هي..تلك ال…، تريد أن تسرقه مني..يا لحظي التعس !!
” لا تبك، ياابنتي، سأعيده لك، جعلنا الله لخدمة المساكين، أمثالك..ثم أن البكاء يزعج الأرواح..”
شبكت ليلى يديها في حركة دارجة عند العجائز:” مسلّمين مكتْفين..!!”
” هيا انزعي عن وجهك هذا الشيء، ألم تذوبي من الحر؟”
كان بوُدّي، والله، شيخنا، لكن، تعلم..هو حالف عليّ”..
” كيف يترك هذه العيون الساحرة، ويجري خلف شقراء آو سمراء؟ تبا له من رجل لا يفهم”!
ردّت أمينة في سرها:” وتبا لك من محتال !”
سأجعله بهذا الحرز يعود إليك راكعا، يقبّل قدميك الجميلتين..احضري ديك عرب أسود، و خمسمائة دينار”
حسنا، سيكون طلبك جاهزا، في أقرب وقت، يا شيخ، غدا ربما، لكن ألن تعطيَني شيئا ليشربه، مثلا؟” تناول ورقة مصفرة قذرة، وقلما مصنوعا يدويا من لحاء الشجر، غمسه في حبر كريه الرائحة، مختلط بصوف محترق، واخذ يخط طلاسم غريبة، بعد أن سأل عن اسم الزوج واسم والدته، ثم طوى الورقة عدة طيات:
خذيها، وخيطي عليها قطعة قماش أخضر،..فهمتِ؟ أخضر”
حاضر، يا شيخ، أمرك.
ضعي الحرز تحت الوسادة، وسادتكما، احشيه جيدا داخل الصوف، لكن قبل ذلك، بخّري الحجاب أمام صدرك سبع مرات..فهمتِ؟
فهمت، فهمت..الله يباركلك، يا شيخ ويعمّر بيتك، سأعود غدا..
أنا بانتظارك، لا تتأخري وإلا استولت عليه الشقراء!..
دسّت أمينة بعض الأوراق النقدية في يده وودعته، وعينه لا تكاد تتوقف عن الحركة اللا إرادية.
بمجرد أن غادرت الشابتان الصومعة، تنفست ليلى عميقا:
كم أنت جريئة!! ألم تخشي أن يكشفك؟
أنا التي سأكشفه؛ سجلت كل كلامه وصوّرته أيضا..حين تظاهرت بالرد على المكالمة الوهمية.. سيكون التحقيق منشورا على الصفحة الأولى بالجريدة، صباح الغد..
ولكن ماذا عن الأرواح؟ هي تحت سيطرته؟.
الأرواح هي الجهل المعشش في رؤوس الجهلاء من الأمة، والحكومات المتواطئة مع هؤلاء المشعوذين، بإقامة الزوايا لهم..والتستر عن تلاعبهم بعقول المساكين..هيا، دعينا نسرع لأخيط الحرز في القماش الأخضر..وأضعه في الوسادة الخالية !!
ضحكت أمينة عاليا بينما راحت ليلى تفكر في سرها بأنها يجب أن تعود بمفردها عند الشيخ؛ لا بد أنه قادر على إيجاد طريقة يبعد بها عنها شبح العنوسة الذي كان يلوح في الأفق..
فوزية خليفي