قد يختلف المؤرخون في نسبة معلم تاريخي “كقبر الرومية”، لكن شموخ وعظمة المعمار يغنيان الزائر والمشاهد عن كتب التاريخ والبحوث الأثرية واختلافاتها، وتكفيه الأساطير التي تفسح لخياله العودة إلى زمن موغل في القدم.
تنام مدينة تيبازة الجزائرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط كالعروس، فاتحة عينيها على حضارة القرن الحادي والعشرين، غير أنّها لا تعيرها اهتماما، لكونها مدينة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فهي إلى اليوم لا تزال تحتضن كنوزا أثرية تتحدث بكل اللغات التي مرّت على هذا المكان واستوطنته.
ومن المعالم التاريخية المذهلة التي تزخر بها محافظة تيبازة التي تبعد مسافة 70 كلم غرب الجزائر العاصمة، ذلك الضريح الذي يحلو لسكان هذه الولاية الساحلية تسميته “قبر الرومية”.
هو قبر ضخم، إسطواني الشكل، يتكون من صفائح حجرية متساوية الحجم وينتهي بمخروط مدرج. وتظهر من خارجه 60 عمودا، ويحتوي في داخله التاريخ الذي جمع بين الملك الموريتاني يوبا الثاني وسيليني كليوباترا ابنة كليوباترا ملكة مصر الفرعونية.
والملك يوبا الثاني ملك الامبراطورية الموريتانية كان يعشق زوجته كليوباترا سيليني حتى الجنون حيث حزن عليها بعد وفاتها حزنا شديدا إلى درجة أنه قرر أن يخلد ذكراها بضريح بناه لها على شكل تحفة معمارية خالدة تحاكي أهرامات مصر في منطقة سيدي راشد بمحافظة تيبازة.
قصة الحب هذه وقعت في الفترة اللوبية الفرعونية التي كان فيها تحالف بين مملكة الفراعنة والمورتانيين بعد أن قام الملك الشيشنق بالتدخل لحماية مصر من غزو جيش الحبشة وبطلب من فرعون مصر، فترة التحالف هذه دامت أكثر من ثلاثة قرون شهدت تزاوجا بين العائلتين الملكيتين، غير أن قصة كليوباترا سيليني ويوبا الثاني كانت أكثر قصص الحب قوة التي دوّنها التاريخ عبر صفحاته حتى تحولت إلى أسطورة يجسدها قبر الرومية أو الضريح الموريتاني.
عظمة الحضارة الأمازيغية التي عرفت أوجها في عهد يوبا الثاني الذي يعد من أقوى الملوك والقادة العسكريين لإمبراطورية موريتانيا، الاسم القديم لمنطقة المغرب العربي بين 25 قبل الميلاد و23 ميلادي وكانت عاصمته أيول وهي شرشال حاليا تبعد 90 كلم غرب العاصمة الجزائر، كما عرفت حقبته بالازدهار والرخاء كونه كان ملكا مثقفا.
ومما يميّز هذا الضريح وجود أربعة أبواب وهمية ضخمة يصل علوّ الواحد منها إلى ما يقارب سبعة أمتار، يحيط بها إطار بنقوش بارزة تشبه إلى حدّ بعيد شكل الصليب، الأمر الذي جعل بعض الباحثين في علم الآثار يعتقدون أنّه مبنى مسيحي، ومنه جاءت ربما تسميته “قبر الرومية” اشتقاقا من كلمة “الرُّومي”، بمعنى الروماني أو البيزنطي.
وتمّ تصنيف هذا الموقع الذي يطلق عليه أيضا “الضريح الملكي الموريتاني”، وهي التسمية المعتمدة لدى المؤرخين والمتخصصين في علم الآثار ضمن التراث العالمي للإنسانية في سنة 1982، كما صُنّف منذ سنة 2002 ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة التربية والثقافة والعلم التابعة للأمم المتحدة (يونيسكو)، بوصفه واحدا من الأضرحة الملكية الموريتانية والمواقع الجنائزية لفترة ما قبل الإسلام.
أمّا عن المحاولات التي قام بها الباحثون لاكتشاف أسرار هذا القبر، فلعلّ أهمّها تلك التي قام بها عالم الحفريات والآثار الفرنسي أدريان بيربروغر في عام 1865، تنفيذاً لطلب نابليون الثالث، ومن خلالها توصل إلى العثور على باب سفلي ضيّق يقع تحته باب خلفي من الناحية الشرقية وهو ممرّ سريّ للضريح.
وعند اجتياز باب القبر، يجد الزائر نفسه في رواق يضطرّه للانحناء عند المشي، تعلو حائطه الأيمن نقوش تمثل صورة أسد ولبؤة، لذا سمّي “بهو الأسود”. وعند اجتياز هذا الرواق، يجد الزائر نفسه مرة أخرى في رواق ثان طوله 141 مترا وعلوّه 2.40 متر، شكله ملتو ويقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته 80 مترا مربعا.
ولمعرفة زمن بناء القبر، فإنّ بعض المؤلفات الرومانية القديمة تقول إنّه يعود إلى 40 سنة بعد الميلاد، أي إلى عهد استيلاء الرّومان على مملكة موريتانيا، وهذا حسب ما يذهب إليه بعض المتخصصين في الآثار الرومانية، حيث يؤكدون أنّ الملك “يوبا الثاني” وزوجته “كليوباترا سيليني”، هما المشرفات على بنائه، ويستندون في ذلك على أن “يوبا الثاني” كان ملكا مثقفا يتذوق فن العمارة، وقد جلب إلى عاصمته شرشال تحفاً فنية اشتراها من بلاد اليونان.
قبر الرومية