في السجون الصينية القديمة نسبيا، والتي لا تشبه سجون الخمس نجوم عندنا، إطلاقا، لا يكتفي القائمون عليها بإحكام حبس من خلف القضبان، فحسب، بل يضيفون عقابا أشدا وَقْعًا وأَقْوَمُ تنكيلا: يفتحون حنفية نصف فتح، بحيث تنزل منها قطرات متعاقبة على آنية من حديد..فيزيد سكون الليل من تردد صدى وقعها، وتصبح عذابا لا يطاق، للمسجون.
وقد يكون لذلك مرادف في مجتمعاتنا العربية عموما، والجزائرية خاصة، لا يقل في عمق تأثيره؛ فقاعات الزيت وصوت شنشنتها على سطح المقلاة، مثلا..وصراخ الطفل الذي لا ينقطع، (أتعجّب من تشبيهٍ يقول أن فلانا ينام بملائكية، كالأطفال!! متى كان الأطفال ينامون؟! نوما ملائكيا أو شيطانيا حتى!؟) صراخ الباعة في الخارج، مهام البيت التي تمتد لتنسج دائرة مغلقة، لا يمكن الهروب منها، وقبل ذلك وبعده؛ الزوج..الطفل الذي سبق أبناءه في الميلاد؛ ذلك الذي لم يُبتَلَ بلوثة الكتابة في دماغه، ولا بوسواسها القهري..والذي يحصر معنى دورة الحياة في عمل ومرتّب وسرير..! كل هذا عذاب بسبق الإصرار، لكاتبة تسكنها الأشباح؛ أشباح الشخوص التي خلَقَتْها بيدها وخيالها، فقفزت من بين الجدران الأربعة للورقة، لتدمن استمرار نبضها في عقل صانِعتها.. إنها تحاول شد انتباهها في كل وقت، بإغراءٍ لا يقاوم، لتعود بها إلى ذلك الكون المسحور؛ لا يعرف متعة عذاباته وأفراحَه، إلا من انتهك حُرمة بياض الأوراق، بفروسية القلم الأفصح. تأتيها الجارات، والصديقات، تغبطنها على ” جنة” بيتها، ونعمة الزواج والأولاد والعمل ومملكة يرونها المتوّجة على عرشها، ووو كل تلك النِعم التي إن تعُدُّها لن تحصيها.. فتحتار لقلبها ” الكافر” بالنِعم؛ و تستسلم في النهاية للأقوى، وتتبع غواية القلم، كعاشقة كانت تنهي كل شيء، بسرعة، وتهرع للقاء حبيبها المنتظر عند الناصية.
في مجتمعات تدرك قيمة الأدب في تغيير حياة الناس، يُنظَر للكاتبة على أنها كائن بمرتبة الشرف، ويتداول العامة، عندهم قولا بأن الارتباط بأديبة، هو ضرب من التضحية المترفة، فهي لا تقنع بشيء أبدا، وسينتهي بها المطاف، بتعذيب ذلك المسكين الذي قَبِلَت أن يكون زوجها..! في مجتمعنا، ارتباطها تضحية، أيضا، لكن بالنسبة إليها وحسب. وأول ما قد تُتَّهم به، وتحاكم عليه، دون فرصة لإثبات براءتها، علاقتها ” الآثمة” بالقلم، وبكل الرجال الذين مرُّوا بخيال صفحاتها، وتُرجَم على كل الخُلوات التي اقترفتها معهم، ومانتج عن ذلك من نصوص، لا مكان لها في دفتر زوجها العائلي! جنة الزوج، هي برزخ مقيم من العذاب، لا يومَ بعثٍ ينتظره، ولا ينفع معه حتى ” الإلحاد” وإنكار وجوده.
أرسلت الكاتبة، في النهاية، صرخة، ضمّت كل تلك الصرخات المجهضة، في كيانها التائق للنور: ” زوجي العزيز، اعتقني من جنتك”!! ..وبعيدا عن المعنى والفكرة، فآسيا من اللواتي أوتين مقاليد الجمال، في السرد والأسلوب، والمقدرة على الأخذ بيد القارىء، لتَمَثُّلِ حالة البطل او الأبطال، في كل قصة..حتى لكأنه يستشعر طعم الدم في فمه، إذا مانزف البطل، ويحدث أن يقفز فرحا، أو يضحك أو يبتسم، إذا مر البطل بحالة انفراج وسعادة. آسيا، لعمق رقة حرفها، تمد يدها إلى دهاليز الأعماق، فتلمس نقطة الضوء التي تنير كل شيء.. روائية، شاعرة وقاصة فذة، تكتب بوعي شديد، وتعلم جيدا أن الأدب صوت الشعب.
فوزية خليفي