كتاب “ليلة النار” : قصّة الفيلسوف إيمانويل شميت الذي زار الصحراء الجزائرية، وعاد منها مؤمناً بعد أن كان ملحدا، في ليلة لن ينساها مدى الحياة.

0
224

لم يكن الكاتب والفيلسوف الفرنسي البلجيكي المعروف إريك إيمانويل شميت (1960-) يتصوّر للحظة واحدة، وهو الكاتب والأستاذ المدرّس للفلسفة في الجامعات الفرنسية، أنّ الرحلة التي قادته نحو الجنوب الجزائري، وبالتحديد تمنراست، سنة 1989؛ الرحلة التي أرادها جولة سياحية، سرعان ما ستقلب قناعاته وأفكاره رأسا على عقب؛ سيعود من الرحلة مؤمنا بعد أن كان ملحدًا. في ليلة واحدة، تغيّر كل شيء، أسماها “ليلة النار”، معنوناً بها كتابه، الصادر عن دار  “البان ميشال” في فرنسا، والمترجم إلى اللغة العربية حديثاً.

هكذا وصفها “بليلة على الأرض جعلتني استشعر الأبدية”؛ في تلك الليلة، تاه في الصحراء، ضيّع أصدقاءه، وبات وحيدا في العراء، يلتحف السماء؛ وفي لحظة يأس، داهمته طاقة لم يدرك كنهها، شجّعته لتسلق قمة الجبل والبحث عن أصدقائه الذين سيعثر عليهم، بعد أن كاد أن يدبّ اليأس في نفسه. في هذا الكتاب سيعترف إريك إيمانويل شميت، أنه وُلد مرتين، مرة في مدينة ليون، الفرنسية سنة 1960، ومرة في تمنراست، بالصحراء الجزائرية في العام 1989؛ الولادة الأولى جسدية، والولادة الثانية روحية.

يقول الكاتب إريك إيمانويل شميت : “كنت شابا، طموحا، عندما زرت الصحراء الجزائرية؛ دخلتها ملحدا، وخرجت منها مؤمنا. كنّا يومئذ، مجموعة تتكوّن من عشرة أفراد، نمشي على الأقدام من تمنراست إلى اسكرام؛ أثناء هذه الرحلة، ضعت، في خلال منعطفين؛ لم أعرف مكان  تواجدي، هكذا مكثت مدة 32 ساعة دون أكل أو شراب، أحسست أن شبح الموت يدنو مني؛ الليلة التي بلغ فيها الخوف ذروته، كانت العكس تماما، فقد منحتني تلك الليلة الثقة الكافية، لقد عشت ليلة صوفية، أسميتها ليلة النار : ذهول ولقاء مع القدر، مع النور؛ هكذا تحوّلت إلى شخص مختلف تماما، كان ذلك اكتشافا، بل ثورة بالنسبة لي؛ فقد ولدت ملحدا، نشأت وسط عائلة ملحدة، في الجامعة تعلمت على يد الفيلسوف جاك دريدا، وأنجزت مذكرة تخرج عن الفيلسوف ديدرو، لقد كنت ملحدا مقتنعا، ليحدث لي في تلك الليلة، ما لم يكن في الحسبان”.

عندما وصل مع رفاقه إلى منطقة اسكرام، وهي هضبة عالية في جبال الهقار؛ غمره فرح عميق، وهو يصف المكان : “إنه سطح الصحراء، اللانهاية أمامي، وفي الخلف وعلى الجوانب، الكوكب المستدير… لم أعد أفكر في شيء، اختزلت نفسي في صمتي وفي عينين تتأمّلان، ولم تعبر ذهني أي فكرة مهمة ولا ذكية، كنت أتمتع بأن أرى, أشمّ، وأطلق الزفرات”. كان يتأمل بدهشة المنظر البارونامي، على ارتفاع ثلاثة آلاف متر. هكذا نصب مخيّمه مع أصدقائه، ومعهم دليلهم السياحي الجزائري اسمه : ابايغور .

كان شميت، سعيدا، بعد أن بلغ القمة؛ بدا له أن يجري غير بعيد عن المخيّم، مستمتعا بقوّته وحريته : “كان الحذر يستدعي أن أنتظر رفاقي، لكنني كنت مستمتعا بقوّتي وحريتي، كما كانت الوحدة تزيد من تمردي، وما نفع الحذر؟ كنت واثقا من نفسي”. كان ينزل بسرعة لساعات، مرت كأنها دقائق، دون تعب : “ها قد وصلت إلى الأسفل. يقع المخيّم على اليمين”. لكنه سرعان ما اكتشف هيكلا عظميا لجمل، ابيضّت عظامه. عجباً، حدّث نفسه مذهولا، “لم ألمحه في طريق الذهاب”. هنا توقف عن الحركة قليلا، تفطن إلى أنه ربما تاه عن المخيّم، فكّر : “يفترض أن يكون المخيّم من هنا، بعد هاتين الصخرتين الكبيرتين، لا أستطيع تحديد مكاني، درت حولهما عدة مرات”. وسرعان ما بدأ يصرخ، مستغيثا، ينادي أصدقاءه بصوت عالٍ، دون جدوى، “ما من مجيب  – هوو هوو … أتاحت لي هذه الصرخة الطويلة تضخيم صوتي، لقد نجحت، يبدو أنني حصلت على رد، عاد إلي رجع الصوت، مكسّرا من صخرة إلى صخرة؛ وبعد الصدى حل السكون.. سكون قاطع، نهائي، والآن اتضح الأمر: أنا تائه”.

تفطن في تلك اللحظة، إلى أنه أصبح تائها حقيقيا في الصحراء الممتدة الأطراف، دون ماء، ودون طعام، “القافلة الوحيدة التي شاهدتها خلال أسبوع كانت قافلتنا، وتمنراست أول قرية تقع على بعد مائة كيلومتر، إنّي أواجه خطرا جسيما.. رحت ألهث محموما، مضطربا ، مذعورا، مهزوما، منذ الآن، من الليلة الرهيبة المقبلة، أنا مستعد للاستسلام للخوف، الذي سيقضّ مضجعي”.

كاد أن يستسلم لليأس، أحس بدنوّ أجله؛ أغمض عينيه المتعبتين، وأخذته غفوة. عندما استيقظ كانت الشمس قد استعادت موقعها؛ حينها أحسّ بشيء غريب، لم يدرك كنهه، بعزيمة وتصميم، وبقوة خارقة تتغلغل في أوصاله؛ هكذا قرر الصعود إلى أعلى القمة مهما كان الثمن، لعله يتمكن من رصد مكان المخيّم. وبدأ يتسلق الجبل، متمسكا بالأمل، أمل النجاة؛ كيف استطاع التحوّل من حال إلى حال، من الخوف إلى الشجاعة، من اليأس إلى الألم ؟ من أين استمد قوّته وشجاعته، ومن أين جاءه بصيص الأمل ؟ هي أسئلة لم يستطع تفسيرها، ولكنها أسئلة تغلغلت في عمق وجدانه. “أثناء ليلتي في الصحراء لم أتعلم شيئا، لكنني آمنت” كتب يقول ايمانويل شميت.

عندما لاح له ابيغور التارقي دليلهم السياحي، عانقه مغتبطا بلقائه، “تمعّن في وجهي، وضع يديه على كتفي، أومأ برأسه معبرا عن قلقه، ثم مد لي مطرته، اندفعت إلى فوهتها، وبعد جرعتين، قاطعني، واحتججت… فأفهمني على أنه عليّ أن أشرب بجرعات صغيرة، وإلاّ سأمرض، وقبلت بكل سرور، تسليم إرادتي إلى صحراوي حقيقي”، أكد له الدليل التارقي، أنه لم ينم الليل كله، وأنه نادى باسمه أكثر من مائة مرّة عبر الجبل، وأنه أضرم نيرانا، في مواقع مختلفة كي تكون له كالمنارات”. الفرحة العارمة التي أبداها الرجل التارقي دليلهم السياحي، بنجاته، أثرت فيه أيّما تأثير؛ الرجل لا يشترك معه في اللغة والدين والعرق، لكنه أحسّ بإنسانية داخله أكبر من الهويّة، كان ضيفا عنده، وفي بلده؛ وللضيف منزلة خاصة، قد لا يفهم عمقها الإنسان في الغرب، الذي باعدت المادة مسافات بينه وبين العلاقات الإنسانية.

سيتذكر إريك إيمانويل شميت، عندما حلّ بتمنراست، استقباله من طرف رجل تارقي آخر اسمه “موسى” ؛ استقبلهم بترحاب حار لم يعهده في حياته، هكذا يصف تلك اللحظة : “استقبلنا كأننا من أقاربه، ودعانا إلى العشاء في بيته”، استقبال يكون قد أربكه، كما قال، ذلك لأنه نشأ في مدينة ليون الفرنسية، “المدينة الباردة المتقوقعة”، كما وصفها، “حيث لا يمكن استقبال صديق إلا بعد أشهر، بل بعد سنوات من الامتحانات الدقيقة” أما موسى “فلم يكن يعرف عنّا شيئا، وكان مغتبطا باستقبالنا، فتح لنا باب بيته البسيط دون تردد، بيت يفوق صاحبه عفوية وبساطة بكل ما يحتويه”.

الكاتب والمفكر الفرنسي، البلجيكي، إريك إيمانويل شميت؛ يعتبر أحد أبرز الكتّاب الفرانكفونيين المعاصرين، وعضو أساسي في أكاديمية “غونكور” المرموقة، التي تمنح الجائزة الأدبية الشهيرة كل سنة. ألف عشرات المسرحيات، ونال عنها جوائز معتبرة، كما ألف عددا هاما من الكتب والروايات، ترجمت لعدد كبير من لغات العالم. هكذا ومنذ زيارته للصحراء الجزائرية سنة 1989، وبالتحديد إلى مدينة تمنراست الساحرة، منذ تلك الليلة التي أسماها “ليلة النار”، تغيّرت بداخله أشياء كثيرة، في الكتابة والتفكير وفي رؤيته للعالم؛ بدأ يكتب عن التسامح والمحبّة بين البشر، يكتب في احترام الثقافات والديانات، واحترام الآخر، هكذا ألف عملا روائيا ناجحا يحمل عنوان “السيد إبراهيم، وأزهار القرآن”، فيه الكثير من التسامح والانتصار للقيّم الإنسانية، وسماحة الدين الإسلامي، والمعنى العميق للتصوّف في الإسلام؛ اقتبس العمل للسينما بنفس العنوان، المخرج الفرنسي فرانسوا ديبيرون، ولعب دور البطولة فيه الممثل المصري العالمي الراحل عمر الشريف، الذي نال جائزة سيزار لأفضل ممثل سنة 2004، عن دوره المتميّز في الفيلم.

“ليلة النار” لن ينساها ايمانويل شميت أبدا، كما كتب في ختام كتابه : “هي ليلة لا تنضب، ستستمر في تشكيل جسدي، وروحي وحياتي، مثل خيميائي ملكي لا يترك عمله أبدًا، هي ليلة على الأرض وضعتني في فرح الحياة بأكملها… ليلة على الأرض جعلتني أستشعر الأبدية… ثمّ بدأ كل شيء”.

بوداود عميّر

أضف تعليقاً