في البدء كان الإمزاد..
يقول الشاعر التارڨي:” في اليوم الذي أموت فيه لا بد أن تدفنوني في قطعة نقية ناصعة من الكتان مثل الورقة البيضاء وصدقوا عني ثلاث أغنيات من غناء إمزاد والفاتحة”.
فوزية خليفي
خلق الطارقي الآلات الموسيقية والطب
ليس هنالك تاريخ مضبوط حول ظهور هذا النمط الموسيقي الفريد من نوعه في شمال إفريقيا، إلا أن الدراسات الأنثرُبولوجية ركزت اهتمامها كثيرا على دراسته و تحليلة، كونه يعتبر من التراث المعنوي الأخير تقريبا، الذي لم يتأثر بأي عوامل خارجية احتكت بها حضارة الطوارق العريقة، فهو و بحسب العارفين بأسراره لم يتغير، و بقي محافظا على طبيعته الأصلية منذ قرون، إضافة لكونه نوعا من الموسيقى الطقوسية و الرمزية التي لها ارتباط عميق و متجذر في تاريخ المنطقة الطويل، إلى درجة يؤكد فيها البعض أنه و عن طريق هذا الطريق الطويل الذي قطعه لحن الإيمزاد الذي حافظ على بنيته الأولى التي ظهر بها في غابر الأزمان، يمكن تشكيل صورة واضحة كما لم تكن من قبل حول حياة الإنسان الأول، بل و الشعور بما كان يشعر به في حالاته الوجدانية المختلفة بالنسبة للذين يمتلكون الحس الموسيقي الوجداني العالي.
يمكن تحديد أربعة عناصر أساسية يقوم عليها عالم موسيقى الإيمزاد الغامض، وهي:
- اللحن نفسه: و الذي ينقسم إلى لحن أساسي أو سيد يُطلق عليه في اللغة الأمازيغية ” آمغار ” و ألحان فرعية تسمى ” إيزلان ” و هي الفروع أو الأغصان. و عموما هناك 36 لحنا خالدا و معروفا في هذه الموسيقى.
- القصائد المرافقة للحن: و التي تتطرق لمواضيع تشكل صلب حياة الإنسان الطارقي و تعطي معنى لوجوده، و عموما هي مواضيع تدور حول المرأة و الجمال و الشجاعة و النبل و الوطن، إضافة إلى قصائد تغنى في المناسبات الاجتماعية و الدينية كالأعراس و أعياد المولد النبوي و عاشوراء…
- المرأة التي تعتبر العازفة الأولى و الأخيرة للإمزاد، إذ أن حمل آلة الإمزاد يكاد يكون أمرا محرما على الرجل في مجتمع الطوارق، الذي تُعتبر فيه المرأة هي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي.
- الآلة اللغز كما يحلو للبعض تسميتها، إنها آلة الإيمزاد الوترية التي تشبه إلى حد ما الكمان, و التي يصدر منها ذلك اللحن الغامض الضارب في عمق التاريخ، و المعبر بصدق عن روحها و روحانيتها.
إن الحديث عن الإيمزاد ارتبط دوما بالقصص و الأساطير التي خطها الطوارق و توارثوها في ثقافتهم حول البدايات الأولى لهذا اللون الموسيقي و آلته المميزة، و لعل أشهر هذه الأساطير تلك التي تحكي أنه و في زمن غابر أين لم يكن هنالك قانون قوي يحكم و ينظم علاقات الناس، و لم تكن هناك أعراف تسير مصالح و علاقات القبائل و الشعوب، نشبت حرب ضروس بين قبائل الصحراء بسبب نبع للماء، و قد استمر القتال لوقت طويل، حيث نزلت لعنة ذلك النزاع على الناس، فحولت عيشهم إلى مرارة و ألم، و فرقت شمل الأقارب و الأحباب، فهجر البلاد قوم كثير و لم يبق فيها سوى من أجبرته ظروف الحرب على البقاء.
لقد تيتم الشباب الذين سرعان ما تحولوا إلى مقاتلين يأخذ الواحد منهم مكان الأب أو الشقيق الأكبر الشاغر في ساحات المعارك التي كانت قد ارتوت بدماء الجيران و الإخوة الأعداء إلى درجة أن الأجيال اللاحقة من المحاربين صارت تقاتل بعضها البعض دون أن تعلم جوهر الصراع و سببه الأصلي، بسبب تراكم الأحقاد و الضغائن التي حولت الجميع إلى كتل من الكره و نيران من التعصب القبلي الأعمى، فصار الرجل يعيش من أجل أن ينتقم.
لقد استمر الأمر على حاله حيث طالت حروب الكر و الفر بين العشائر المتقاتلة، و ضاقت الصحراء بما رحبت على نساء الطوارق، اللواتي فقدن نضارتهن بسبب ما فعلته الدموع و الدهر بوجوههن السمر، بعد أن فقدن أزواجهن و أبناءهن و قُطعت أرحامهن و وجدن أنفسهن ضحايا للوحدة و الخوف و الضياع، و هن يشاهدن كيف تحول الحرب و أحقادها ما بقي من رجال و شباب إلى مجرد جثث حية تصطف على لائحة الموت منتظرة ضربات أمصال السيوف و الرماح، لتجعل منها طعام ضباع الليل في آخر المساء بعد نهاية الاقتتال.
أجل لقد غاب الأمن و الأمان، حيث اختلطت العزة بالإثم و صارت الدماء رخيصة و ضاعت قداسة الصحراء فلم يعد للحياة معنى.
لهذا السبب قررت نساء العشائر المختلفة الاجتماع ذات يوم لبحث مخرج لهذه الكارثة الحضارية و الأخلاقية التي حلت على القوم، بسبب نبع ماء لم و لن تنقطع مياهه أبدا، فقررن يومها ابتكار شيء ما تكون له القدرة على إيقاظ الضمائر و المشاعر و العودة بالعقول و القلوب إلى التبصر في المعاني الحقيقية لنبل و شهامة رجل الصحراء.
حينئذ اقترحت إحدى النسوة صناعة آلة موسيقية لذات الغرض، فأوكلن المهمة لأكبر الحاضرات سنا و أكثرهن حنكة و معرفة بأسرار الفيافي.
و بالفعل و من دون انتظار عادت العجوز إلى بيتها، حيث تطهرت و تزينت و خرجت تبحث عما تصنع به هذه الآلة، مسلمة روحها إلى روح الصحراء، تاركة بذلك الأمر لغرائزها الأمومية كي تتصرف بكل تلقائية و سجية في صناعة هذا الشيء المقدس.
حينئذ هبت نسمات خفيفة مدحرجة حبيبات الرمل الذهبية على الكثبان، محركة أوراق شجر الصحراء، ثم صارت تحدث نوعا من الصفير الخفيف على مداخل الكهوف التي عاش فيها الأسلاف قبل آلاف السنين، بشكل شد مسامع الفهود المستلقية على الصخور المتراصة فوق بعضها البعض، في ذات الوقت الذي كانت فيه المرأة قد فرغت من صناعة الكمان ذو الوتر الواحد، فمرت تلك النسمات و لامست الوليد الجديد فكانت روحه التي سكنته.
و في مكان غير بعيد، كان دولاب الحرب الضارية مستمرا في حصد المزيد من الأرواح و تحطيم المزيد من القلوب، حيث اشتد القتال بين المحاربين و كل يشد على مقبض سيفه بيده المتعرقة، و بصره شاخص بين الغبار الذي كانت تثيره حوافر الجمال و التحام المقاتلين بعضهم ببعض.
إلى أن حدث شيء غريب، فقد بدأت أصوات تناطح السيوف تخف شيئا فشيئا، و راح صراخ حناجر الرجال ينزل إلى أدنى مستوى، فراح البعض يتساءل عما يحدث بعد أن توقفوا عن مبارزة بعضهم البعض، لكن عبارات و همسات الطاماشيق (2) انتشرت بين الجميع، مفادها أن اسمعوا هذا اللحن الشجي القادم من بعيد مع نسمات الهواء، وقف الجميع للحظات دون حراك و هم يُنصتون لتلك الألحان الطيبة الغريبة التي راحت تداعب مسامعهم و تتسلل بشكل معجز إلى أعماق قلوبهم، لتبدأ في تهدئة غضبها و خوفها، تماما كالماء الباردة التي تسكب على المعدن الوهاج من النار فيتصاعد حره في شكل بخار فيتبدد في الهواء.
من دون سابق إنذار، وجد الرجال أنفسهم و هم يضعون أسلحتهم على الأرض، و يسيرون من دون وعي قاطعين تلك المسافة يتتبعون صوت الآلة عن طريق النسمة التي كانت تحملها إليهم و تقودهم إليها، و هم في حالة روحانية غربية و نظرات شاردة صبت عليهم الطمأنينة التي افتقدوها لسنين عديدة، و التي برزت عبر نظرات عيونهم التي كانت تفضي عن ملامح وجوههم الملثمة.
إلى أن وصلوا إلى تلك الشجرة وسط الصخور البركانية، أين كانت المرأة تجلس في وقار، تضع الوليد فوق حجرها و هي تعزف بكل تلقائية مستلهمة تلك الألحان من روح الصحراء الشاسعة، و من همسات أرواح و أطياف الأسلاف الهائمة في ربوعها.
فكانت الآلة تبدو كالولد الوديع حين يجلس فوق حجر أمه الحنون، يُدندن ألحانه الملائكية في سلام، في حين تداعب هي خصلات شعره بأناملها الرقيقة.
لقد جلس المحاربون جميعا جنبا لجنب مشكلين ما يشبه الحلقة، و أغمضوا أعينهم و راحوا ينصتون إلى اللحن الذي أخذهم بعيدا عن الواقع، أخذهم إلى أعماق أنفسهم، في مكان ما حيث يُمكن للروح و القلب أن يتطهرا من نجاسات الأحقاد و الكره، التي تطمس البصيرة و تحول العبد إلى ما يشبه البهيمة.
هناك تخلص كل واحد منهم من حمله الأسود، و ما إن كادت العازفة تنتهي من عزفها المقدس حتى فتح الجميع أعينهم التي فاضت منها نظرات جديدة، فراحوا بعدها يتعانقون و يتبادلون الاعتذار و الصفح، و هكذا أنهت آلة الإيمزاد و موسيقاها أيام الحرب، و أتت بحقبة عاشت فيها جميع قبائل الصحراء في كنف السلم و الأخوة.
و هكذا يُمكن للقارئ الكريم استلهام عدد لا يحصى من العبر و القيم الأخلاقية من هذه الأسطورة الجميلة، لكن الأجمل هو حقيقة ذلك التأثير النفسي الغريب الذي لا تزال تحدثه هذه الموسيقى في نفوس أبنائها من الطوارق، أو عشاقها من السياح الأجانب، فأنت تراهم يجلسون من دون حراك في حضرة العازفة، إلى درجة قد يبدون فيها كأنهم جمادات، و الحقيقة هي أنهم و في تلك اللحظات يكونون في قمة التأمل و الاستبطان، إلى درجة قد تدفع الفضولي إلى افتراض أن تلك الأسطورة التي عمرها عشرات القرون حقيقية فعلا.
لكن ما يؤسف له حقا هو أن أعدادا لا يستهان بها من الجزائريين و خاصة من الشباب، تجهل وجود مثل هذه الثقافة أو مثل هذا التراث المعنوي الهام للبلد، رغم أنه قد وصل إلى اليابان و كندا و روسيا، حيث اكتشفه شباب هذه الدول كما لم يكتشفه شباب بلده الأصلي .
آلة لا يقربها الرجل:
الإمزاد هي آلة وترية أشبه بالربابة العربية أو الكمان، يتم صنعها على شكل قدح بواسطة الخشب، يتم ربط رأسه بقطعة من جلد الشاة، ويتم وصل الحدين الفاصلين بوتر مصنوع من شعر ذيل الحصان، ليتم ضبطه بعناية فائقة، يمكن العزف عليها بعد ذلك، حيث تُصدر صوتا موسيقيا طربيا، يتم من خلالها مخاطبة الروح والتأثير فيها، ومن أكثر الأشياء المميزة في هذه الآلة الطقوسية، بأنه يتم العزف عليها من قبل النساء فقط، ولا يُمكن بحال من الأحوال أن يعزف عليها الرجل، خاصة وأن الأسطورة حاضرة بقوة في حياة الطوارق، والتي تقول في هذا الشأن بأن الرجل إذ عزف على هذه الآلة فإنه سيأتي الخراب على العشائر والقبائل، ويعم الحزن على الناس، وعليه كان محرما على الرجل العزف عليها، ويُظهر الطوارق اهتماما كبيرا بالموسيقى، وهذا ما ما ينعكس ميدانيا في حياتهم، خاصة في مجال الغناء “الغناء عند الطوارق كالأكل والشرب، لا يستغنون عنه ولا يقلعون عنه، فالتارقي يغني في بيته، وفي طريقه لجلب الماء، ولسقي الحيوانات، وفي صحرائه، وهو يمتطي جمله، يتغنى ليطرد الملل والنعاس في ليالي الصيف الرطبة، حيث يحلو لهم السير بعد يوم من الحر القائظ، كما يحتل الرقص هو الآخر في حياتهم حيزا مهما “وما هو معروف عن التارقي أنه يعشق الرقص، فهو يرقص إذا فرح، ويرقص إذا غضب، ويعالج مرضاه أيضا بالموسيقى والرقص، ولكل مناسبة رقصتها، فللمريض يرقصون، وللعائد من السفر، وللمولود، وللعرس، وللختان يرقصون، وللحرب يرقصون، وللمطر يرقصون، فالتارقي ذواق للموسيقى وللفن، في حفلات الرقص، يرقص الجميع، وحتى كبار السن تراهم يحركون رؤوسهم وأكتافهم في مجالسهم على أنغام الموسيقى وقرعات الطبل ويصرخون صرخاتهم المميزة.
نساء كتبن تاريخهن بالإمزاد:
معظم النساء الطارقيات يعزفن على آلة الإمزاد، والبقية لديهن ثقافة الاستماع والاستمتاع، وعليه أقبلت عليها نساء الطوارق بكل حب، حيث وجدن فيها الملاذ الروحي والصوفي، وقد لمع نجم بعضهن في سماء هذه الموسيقى، أنرن طريق الذين يسحرهم هذا الفن، ليتحولن بمثابة أيقونات الإمزاد، وهذا على غرار كل من أوسلي تاتة من منطقة برج الحواس، وداودي شامة من إليزي، والأمتن خولن، ودمياه إدبير، وشتيمة بوزيد، وبيات إدبير من منطقة تمنراست، ناهيك عن أعرق واحدة فيهن وهي داسين ولت إيهمه (1873ـ1933)، التي نسجت على حياتها العديد من الحكايات البطولية والأساطير، اذ يُمجدها سكان الآهاقار إلى أٌقصى حد، ويتم نسج العديد من الأساطير حول حياتها وطريقة عزفها على آلة الإمزاد، ولم تكتف هذه المرأة بالعزف فقط، بل تعدته إلى قرض الشعر، تتغنى من خلاله بالبطولات والمعارك والحروب والحب والغزل والهجاء والمدح، كما تتصف بالحكمة وسداد الرأي، ناهيك عن الجمال الذي كانت معروفة به، كل هذه الصفات كانت مجتمعة في شخص داسين ولت إهمة، التي عشقها الكل، وأحب الزواج منها أكابر القوم وشرفاؤهم، ممن يتزعمون الجيوش، ويتصفون بالبسالة والشجاعة والشرف، من بينهم ابن عمتها “الأمنوكال موسى لق امستان” زعيم الطوارق، الذي فُتن بها إلى درجة كبيرة، وأحبها حبا لا يُوصف، لكن للأسف لم تبادله نفس هذا الحب، ورفضت الزواج منه، وتزوجت بآخر، وهذا ما رفضه رجال الطوارق، الذين عارضوا هذا الزواج، إذ يقول الرواة بأنهم أٌقسموا على أنه لا تخرج ناقة من القبيلة إلا وعقروها، لكنهم رضوا بالأخير باختيارها، بحكم أن هذه المرأة تحتل مكانة كبيرة في حياتهم، كما أن معظمهم خافوا من سلاحها، وهو الإمزاد، حيث تستعمله في هجائهم والتعرض لهم خلال عزفها، إذأن مريديها كثر، الذين يحفظون ما تقول، كما أنه معروف على داسين بأن لها طقوسا خاصة في عملية العزف على الإمزاد، اذ تعزل الناس ثلاثة أيام قبل العزف، وتخرج عليهم في اليوم الرابع، محملة بالزاد الشعري والموسيقي.
كما تُعد الراحلة حديثا بن عمر ترزخ التي توفيت سنة 2009 من أبرز حاملي لواء هذا الفن، وعميدة العازفات على آلة الإمزاد في الجزائر، وكانت سفيرة لهذه الموسيقى التي قدمتها للعالم أجمع، إذ وهبت حياتها قربانا لخدمة هذا التوجه بصفة خاصة، وللثقافة الطارقية على العموم، كما كان لها الفضل الكبير بعد أن أسست سنة 2002 مدرسة تُعنى بموسيقى الإمزاد وتلقينها للجيل الحالي، خاصة الفتيات الصغيرات، وبعد 84 سنة من العطاء رحلت ترزخ لكنها تركت وراءها ثمرات البذور التي زرعتها لتلقين الإمزاد.
.___________________________________
الشرح:
1 -الطوارق أو الرجال الزرق هم قبائل تنتشر عبر دول الساحل الإفريقي , كليبية, مالي, نيجر, موريطانيا, و الجزائر التي تعتبر من أهم مراكزهم لتواجد أطلال مملكتهم و ضريح ملكتهم التاريخية ” تينهينان ” في منطقة ” آبلسة ” بالجنوب الجزائري.
2 -طاماشيق أو طاماشيك, هي لغة الطوارق التي تكتب بحرف ” التيفيناغ ” الذي يعتبر القاعدة الأبجدية الأساسية للخط الأمازيغي في الجزائر